أصبح الطيران التجاري من الركائز الأساسية في الاقتصاد العالمي حاليًا، فهو يسمح لنا بنقل البضائع والأشخاص بسرعة في جميع أنحاء العالم، ويسهل أكثر من ثلث إجمالي التجارة العالمية من حيث القيمة، ويدعم أكثر من 87 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك فإن قطاع الطيران مسؤول عن نحو 2.5% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المُسببة للاحتباس الحراري، ومسؤول أيضًا عن نحو 5% من تغير المناخ الناجم عن النشاط البشري، وهناك محاولات عديدة لتقليل هذا التأثير منذ فترة، ولكن التحول في هذا القطاع يحدث ببطء شديد.
قال (توم أوليري) Tom O’Leary الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة JetZero، في تصريح لشبكة CNN الإخبارية: “نشعر بضرورة اتخاذ مسار تقليل الانبعاثات إلى الصفر في الطائرات الكبيرة، وتصميم الجناح المتصل سيساهم في خفض حرق الوقود والانبعاثات بنسبة 50%، وهذه قفزة مذهلة إلى الأمام مقارنة بما اعتادت عليه صناعة الطيران”.
لم يتغير التصميم الأساسي للطائرات التجارية كثيرًا في السنوات الستين الماضية، إذ إن الطائرات الحديثة مثل: Boeing 787، و Airbus A350 لها الشكل العام نفسه لطائرات Boeing 707، و Douglas DC-8، التي صُنعت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وعُززت بعامل الشكل الذي يتمثل في “الأنبوب والجناح” الذي لا يزال مستخدمًا حتى اليوم.
وذلك لأن الطيران التجاري يعطي الأولوية للسلامة، ويفضل الحلول المجربة والمختبرة، ولأن التطورات الأخرى – في المواد والمحركات، على سبيل المثال – تعني أن التصميم التقليدي لا يزال مناسبًا.
ونظرًا إلى أن صناعة الطيران تحاول بكل الطرق أن تقلل من انبعاثات الكربون، فإنها تواجه تحديًا أكبر من القطاعات الأخرى، لأن تقنياتها الأساسية أثبتت صعوبة التحول عنها. لذلك فقد حان الوقت لتجربة شيء جديد!
يبدو شكل التصميم الجديد للطائرة مشابهًا تمامًا لتصميم “الجناح الطائر” الذي تستخدمه الطائرات العسكرية مثل: (القاذفة بي-2) B-2 bomber، ولكن الجناح المتصل يحتوي على حجم أكبر في القسم الأوسط.
تعمل كل من شركتي (بيونج) Boeing و(إيرباص) Airbus على تعديل الفكرة، كما ظهرت شركة جديدة تُسمى (JetZero) ومقرها كاليفورنيا، وضعت هدفًا طموحًا يتمثل في تشغيل طائرة بجناح متصل بحلول عام 2030.
مفهوم تصميم الجناح المتصل ليس مفهومًا جديدًا، إذ ظل قطاع الطيران والفضاء يطور نماذج أولية لعقود من الزمن، وتعود المحاولات الأولى لبناء طائرات بهذا التصميم إلى أواخر عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا، ثم ابتكر المصمم وصانع الطائرات الأمريكي (جاك نورثروب) Jack Northrop تصميم الجناح الطائر في عام 1947، الذي اُستلهم منه تصميم الطائرة العسكرية (B-2 bomber) في التسعينيات.
يُعد تصميم الجناح المتصل نوعًا هجينًا من تصميم الجناح الطائر وتصميم الأنبوب والجناح التقليدي، وهو يسمح للطائرة بأكملها بتوليد الرفع، مما يُقلل السحب إلى أدنى درجة. و(الرفع) Lift هو القوة التي تعاكس وزن الطائرة بشكل مباشر وتُبقي الطائرة في الهواء، أما (السحب) Drag فهو القوة الديناميكية الهوائية التي تعيق مرور الطائرة عبر الهواء.
تقول وكالة ناسا الأمريكية للفضاء: “إن هذا الشكل يساعد في تقليل استهلاك الوقود، ويوفر مناطق حمولة أكبر (للبضائع أو الركاب) في الجزء الأوسط من جسم الطائرة”. وقد اختبرته الوكالة في إحدى طائراتها التجريبية التي تُسمى (X-48).
ومن خلال ما يقرب من 120 رحلة تجريبية بين عامي 2007 و2012، أثبتت طائرتان مسيّرتان من طراز X-48 تعملان بالتحكم مِن بُعد، جدوى هذا التصميم. وتقول الوكالة: “إن طائرة من هذا النوع سيكون لها جناح أكبر قليلًا من طائرة بوينج 747، ويمكن أن تعمل من محطات المطار الحالية”، مضيفة أن الطائرة أيضًا “ستكون أخف وزنًا، وستولد ضوضاء وانبعاثات أقل، وستكون تكلفة تشغيلها أقل من طائرات النقل التقليدية المتقدمة”.
يَعد هذا التصميم الجديد بمزيد من الكفاءة في استهلاك الوقود، وحمولات أكبر، والقدرة على استخدام مدارج أقصر، وتوفير أكبر في تكلفة التشغيل.
في عام 2020؛ طرحت شركة (إيرباص) الفرنسية نموذجًا لطائرة صغيرة الحجم يُتحكَّم فيها من بعد، كانت تستخدمها لاختبار التصميم في معرض سنغافورة للطيران 2020، مما يشير إلى اهتمامها بالتصميم وإمكانية العمل عليه في طائرة بالحجم الكامل في المستقبل.
ولكن إذا كان هذا التصميم فعالًا للغاية، فلماذا لم تستخدمه الشركات في تصميم الطائرات حتى الآن؟
وفقًا لتوم أوليري؛ هناك تحد تقني رئيسي واحد يعيق الشركات المصنعة من استخدام تصميم الجناح المتصل في طائراتها، وهو الضغط على جسم الطائرة نتيجة تصميمها غير الأسطواني. وأشار إلى أن تصميم الطائرة الأسطواني أكثر قدرة على التعامل مع دورات التمدد والانكماش المستمر التي تأتي مع كل رحلة.
كما قال: إذا فكرت في التصميم التقليدي للطائرات الذي هو عبارة عن الأنبوب والجناح فإنه يفصل الأحمال، إذ يوزع حمل الضغط على الأنبوب، وأحمال الانحناء على الأجنحة، لكن الجناح المتصل يمزج هذه الأحمال معًا. الآن فقط يمكننا تنفيذ هذا التصميم باستخدام مواد مركبة خفيفة وقوية”.
مثل هذا التصميم الجديد من شأنه أن يجعل الشكل الداخلي للطائرة مختلفًا تمامًا عن الطائرات الموجودة اليوم. يقول أوليري: “سيؤدي هذا التصميم الجديد إلى وجود مساحات كبيرة داخل الطائرة، فالطائرة العادية ذات الممر الواحد الآن تضم ثلاثة مقاعد في كل صف، لكن التصميم الجديد هو عبارة عن أنبوب أقصر وأعرض، ويحمل العدد نفسه من الأشخاص، ولكن قد يكون لديك 15 أو 20 صفًا في المقصورة، اعتمادًا على تنفيذ كل شركة طيران للتصميم”.
يقول أوليري إن أقرب طائرة مكافئة من حيث الحجم للطائرة التي تعمل شركة JetZero على تطويرها بتصميم الجناح المتصل هي طائرة بوينج 767، وهي طائرة عريضة بمحركين طُرحت في الثمانينيات وكانت تتسع عادة لنحو 210 ركاب. ولا تزال تُنتج للشحن لكنها اُستبدلت بطائرة بوينج 787 للركاب. وتوجد منها أيضًا نسخة عسكرية حديثة KC-46 يستخدمها سلاح الجو الأمريكي للتزود بالوقود في الجو.
وبالمثل، تريد شركة JetZero تطوير ثلاثة أنواع في وقت واحد: طائرة ركاب، وطائرة شحن، وناقلة وقود. وتصميم الجناح المتصل شديد الفعالية مع النوع الأخير، مما دفع القوات الجوية الأمريكية إلى منح شركة JetZero مبلغ 235 مليون دولار لتطوير طائرة كاملة وفقًا لهذا التصميم الجديد وإثبات مدى فاعليّته.
ومن المتوقع أن تبدأ الرحلة الأولى بحلول عام 2027، مما يعني أن النسخة العسكرية لهذه الطائرة من المقرر أن تقود طريق التغيير في قطاع الطيران، وربما تدعم تطوير الطائرات التجارية.
ومع ذلك، فإن بناء طائرة جديدة تمامًا من الصفر يعد مهمة كبيرة جدًا، وتبدو أهداف JetZero طموحة، نظرًا إلى أن عملية الاعتماد الكاملة حتى لنسخة من طائرة موجودة قد تستغرق سنوات.
ولكن تتمثل إحدى الميزات التي تتمتع بها JetZero في هذا المجال في أن الطائرة التي تعمل على تطويرها ستعتمد مبدئيًا على محركات الطائرات المستخدمة اليوم، مثل: بوينج 737، مع أن الهدف النهائي هو الانتقال إلى محرك لا يولد انبعاثات تمامًا، مثل الذي يعمل بالهيدروجين، وهذا يتطلب محركات جديدة لم تُصنع حتى الآن.
لم تتلقَّ شركة JetZero أي طلبات شراء لطائرتها حتى الآن، لكن أوليري يقول إن شركات الطيران مهتمة بذلك، وقال: “نحن نتحدث بالفعل مع جميع شركات الطيران الكبرى على مستوى العالم؛ لأنها متحمسة لسماع مكاسب الكفاءة”.