التاريخ الاقتصادي يشبه لعبة شطرنج طويلة ، تجاهل الأخطاء القديمة فيها يؤدى الى تكرارها ” … بهذا التفكير الاستراتيجي ينقل ” كينيث روجوف ” تجربته الاحترافية من حدود رقعة الشطرنج إلى آفاق مفتوحة على دراسات و تحليلات معمقة لأزمات الديون العالمية ، و ذلك عبر مقعده الأكاديمى المرموق كأستاذ للاقتصاد الكلى بجامعة هارفارد الأمريكية العريقة .
روجوف – 72 عاما ، أطل مؤخرا بدسامة خبرته عبر مجلة Foreign Affairs إصدار سبتمبر 2025 بمقال تشريحى هام بعنوان ” الإنهيار الأمريكى القادم … هل يؤدى إدمان واشنطن للديون إلى إشتعال الأزمة العالمية التالية ” معتمدا على كتابه الأشهر الصادر عام 2009 ” هذه المرة مختلفة ، ثماني قرون من الحماقة المالية ” و لكن بمعطيات معاصرة تكشف عن مخاطر ثقيلة قادمة من الاقتصاد الأمريكي تحديدا .
الديون الأمريكية القياسية
يلقى روجوف على الطاولة بخمسة احصائيات رئيسية و هى ” الدين العام الأمريكى عند حاجز 37 تريليون دولار معادلا كل ديون الاقتصاديات المتقدمة مجتمعة – صافى الدين حاليا مساويا للدخل القومي الأمريكي – نسبة الديون الآن تصل إلى 120 % من الناتج الإجمالي الأمريكى و قد تصل فى عام 2054 إلى 190% – مدفوعات الفوائد 880 مليار دولار أعلى من ميزانية الدفاع الأمريكية 850 مليار دولار العام الماضي ـ كل 1% زيادة فى أسعار الفائدة تضيف 370 مليار دولار فى متوسط مدفوعات الفوائد سنويا “
استمرار تراكم هذا الحجم الهائل من الديون دفع مكتب الميزانية فى الكونجرس مطلع العام الجارى إلى تقدير النمو الأمريكى عند 1.8 % سنويا فقط خلال العقد المقبل ، محذرا أن تلك المستويات من الديون تخنق النمو الاقتصادي … الأمر الذى ترجمته وكالات التصنيف الائتماني بتخفيض نظرتها للديون الأمريكية لأول مرة فى مايو 2025
الفائدة و التضخم … إلى أين ؟!
يرى روجوف أن أكبر أزمة يشهدها الاقتصاد الأمريكي حاليا هى أزمة سياسية فى ظل فوائد مرتفعة و تضخم مستمر و أوضاع مالية محفوفة بالمخاطر ، و هذا كاف للإعلان عن أزمة مالية جديدة قد تكون بدأت بالفعل ، و من أهم ظواهرها استمرار الانفاق الحكومي الكبير و بدء تراجع ثقة المستثمرين الدوليين فى مكانة الدولار و حيازة سندات الخزانة .
هذا بخلاف انتقاده الواضح للمروجين الحالمين بأسعار فائدة متدنية كالتى فى ولاية ترامب الاولى ، مستشهدا فى ذلك بتقديرات مكتب الميزانية في الكونجرس بأن الحكومة الأمريكية ستدفع متوسط فائدة قد يصل إلى 3.6% حتى عام 2055 فى ظل توقعات باستمرار ارتفاع التضخم عالميا لسنوات قادمة ، و ذلك أمام ضغوط تمويلية من أربعة عوامل أساسية و هى …
أولا ، زيادة الإنفاق العسكرى عالميا فى ظل النزاعات المفتوحة حاليا و المحتملة فى المستقبل القريب .
ثانيا ، ثورة الذكاء الاصطناعي و ما تتطلبه من استثمارات هائلة تخلق طلبا واسعا على الاقتراض .
ثالثا ، إعادة تشكيل البنى التحتية فى ظل تحول العالم و خاصة الدول المتقدمة منه إلى الطاقة الخضراء .
رابعا ، إعادة بناء و توزيع سلاسل الإمداد العالمية خاصة فى فترة ما بعد كورونا و استئناف الحروب التجارية .
كيف تواجه واشنطن أزمتها الاقتصادية ؟
فى 27 اغسطس الماضى نشر موقع بلومبيرج رسمًا بيانيًا يقارن بين حيازات البنوك المركزية الأجنبية من الذهب مقابل سندات الخزانة الأمريكية كنسبة من إجمالي الاحتياطيات الدولية خلال الفترة من 1970 حتى عام 2025 ، و الذى شهد من قبل البنوك المركزية تفوقا لحيازات الذهب أعلى من حيازاتها لسندات الخزانة لأول مرة منذ عام 1996.
ليعكس ذلك تحولًا استراتيجيًا عالميًا يستشعر مخاطر متصاعدة من أدوات الدين الأمريكية و ينوع احتياطياته الآمنة بالذهب ، مبتعدا بحذر متنامى عن الاعتماد على الدولار الذى يمثل حاليا أقل من 58% من احتياطيات البنوك المركزية .
بالعودة إلى روجوف فى ضوء ما سبق ، فإن الأزمة تزداد و تعلن عن نفسها تدريجيا مع تأكل ثقة العالم بالدولار و طرق تعامل الولايات المتحدة مع تراكم مدفوعات الديون المستحقة عليها ، و التى تقول الشواهد القريبة أن واشنطن تنتهج مسارات ملتوية تتلخص فى الأتى …
أولا ، ” يمكن لأمريكا التخلف الانتقائى عن سداد بعض الديون المستحقة عليها للبنوك المركزية ، و ايضا فرض ضرائب تصل إلى 20 % على بعض المستثمرين الأجانب فى سنداتها ” … هذا الاقتراح جاء فى نوفمبر الماضي من ” ستيفين ميران ” رئيس المستشارين الاقتصاديين لترامب و المرشح لخلافة جيروم باول فى رئاسة الفيدرالي عام 2026
ثانيا ، استغلال التضخم المرتفع لتبرير حالات مقصودة للتخلف الجزئى عن السداد ، و اللجوء لحالات الطوارئ الوطنية التى تسمح بالتملص من الفوائد المرتفعة طويلة الاجل بتفويض تشريعى من الكونجرس لوزارة الخزانة بتحديد أسعار فائدة قصيرة الأجل ، و أيضا إغراق الأسواق بديون أكثر بغية إعادة خلق الطلب على السندات مجددا من قبل المستثمرين المحليين والأجانب و من الحكومة الأمريكية نفسها
ثالثا ، التوسع فى ابتكار اصول مالية تبدو مستقرة و ربطها شرطيا بأدوات الدين الأمريكية ، و أوضح توجه على ذلك كان فى يوليو الماضي حيث أصدر الرئيس ترامب قانون ” جينيوس ” المنظم لصناعة الأصول الرقمية فى السوق الأمريكى ، و الذى من أهم بنوده الزام مصدرى تلك العملات بربطها بأصول سائلة ” الدولار و سندات الخزانة قصيرة الأجل ” ، مما يعزز الطلب عليهما تحديدا … لهذا و اكثر أراد ترامب جعل امريكا عاصمة للكريبتو ، و روج ابنه إريك فى هونج كونج اغسطس الماضى إلى بلوغ بيتكوين حاجز مليون دولار خلال السنوات القليلة القادمة .
ختاما ، تحاول الولايات المتحدة على حساب العالم و حساب نفسها أيضا تجنب لحظة ” كش دولار ” بخلق طلب إجبارى على ديونها القياسية و الأغرب انها تريد ذلك فى ظل عجزها التجارى المزمن و بفوائد منخفضة و مع تصدير تضخم مرتفع للعالم ، و لكن كيف يستقيم ذلك و يستمر … و إلى متى ؟!
بقلم ، محمد مهدى عبد النبى